alsaidilawyer المدير العام
عدد المساهمات : 225 تاريخ التسجيل : 11/12/2011 العمر : 53 الموقع : الجمهورية اليمنية - إب
| موضوع: خطبة الجمعة رؤية تصحيحية الخميس ديسمبر 29, 2011 5:55 pm | |
| خطبة الجمعة رؤية تصحيحية سلمان بن فهد العودة 1- تمهيد : نشتكي كثيراً من سيطرة الآخرين على الإعلام ، وهذا صحيح ، بَيْدَ أنه ليس كلَّ الحقيقة ؛ لأن هذه السيطرة هي أحد أخطائنا الاستراتيجية العَصِيَّةِ على العلاج. أما الشِّقُ الآخرُ من الحقيقة فهو أن الميدان الذي نملكه واسع أيضاً ، ولكنا أخفقنا في استثماره لأسباب كثيرة . فنحن -أحياناً- نشعر بأنه لا منافسَ لنا ، فنتحرك ببطء شديد ، وأحيانا نشعر بأن الدائرة تضيق علينا؛ فنهرب إلى معادلة شديدة الاستحالة ، وهي: إن ما نملكه لا قيمة له ، والشيء القيم لانستطيعه . وبين هذا وذاك يخلد المرء إلى التبعيّة والتقليد والمحاكاة ، ويضم إلى ورد الصباح : ليس في الإمكان أبدع مما كان . لقد تحسن الأمر كثيراً ، فلقد كان الخطباء يرددون خطب ابن نباتة المصري حتى وقت قريب ! والحق أن سندنا الأقوى هنا هو الدين . نعم . الدين الذي ساق هذه الملايين إلى ساحة الخطبة طوعاً واختياراً . والدين الذي استنصتهم ، وكاشفهم أن من مس الحصى فقد لغا ، ومن لغا فلا جمعة له . والدين الذي هو اللغة المشتركة بيننا وبينهم ، فبسمه نتحدث وبسمه يستمعون فإذا أحسنا التعامل مع قضاياه وحقائقه أمسكنا بالزمام ، وإلا فسيكون الضعف من حيث كانت القوة .
2- المضمون : وهذا يقود إلى جوهر الموضوع . فحجر الزاوية هو حسن اختيار موضوع الحديث ، وطول التفكير فيه ، ليكون قادراً على المواءمة بين مطالب الشرع ، وحاجات الواقع ، وتطلعات المستقبل . إن التوفيق في اختيار الموضوع بحد ذاته ، نجاح حتى لو حدث نقص في تغطيته . والاتكاء على مُحْكمات الشرع ومُجْملاته أليق وأوفق ، فالحديث عن الله وكمالاته ، ونعمه وأعطياته ، والقرآن وفتوحاته ، والرسول وكراماته ، ثم الإيمان وأركانه ، والإسلام وأعلامه ، والإحسان وبيانه .. وتأييد ذلك ببديع القول، ولطيف الإشارة ، ومساق المثل ، وأعجوبة القصة ، وبليغ الشعر، ومكتشف العلم الحديث ، وعبرة التاريخ . مراعىً في ذلك المقصود الأسمى في تحريك القلوب ، وتصفية العقول ، وضبط السيرة .. دون إيغال في جدليات لا تناسب المقام ، أو تذهب ببهجة الكلام . أما تفصيلات الأحكام فلها حيزها المحدود ، فلا تستأثر بالأمر ، ولا يخرج الحديث إلى تشقيق مفرط ، أو تشهير محبط ، أو محاكمة بين الأقران ، أو تهديد بلاهب النيران . اللهم إلا إذا جاء الحديث عن قطعيات ومحكمات ، من واجبات أو محرمات ؛ فهناك يكون الاقتداء بمنهج القرآن في الوعد والوعيد . وأيُّ تَثْريبٍ على خطيب يأمر بالصلاة والزكاة ، أو ببر الوالدين وصلة الأرحام ، أو بالإحسان إلى الجيران ، أن يشفع حديثه بوعد صدق للعاملين ، وجنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين ؟! أم أيُّ تثريبٍ على خطيبٍ ينهى عن الشرك وأسبابه ، أو العقوق ، أو بخس الحقوق ، أو فواحش الأخلاق ، أو محكمات المنهيات في الشريعة أن يَزَعَ النفوس بوعيد ترجف له القلوب ، وتصطك له الأسماع ؟ ولعل هذا وذاك خير من عزل الوعد والوعيد عن أسبابها ، وإفرادهما إفراداً يرسل النفوس مع رجاء ، أو يقطعها من خوف . أما مواطن الاختلاف، وتعارك الأسلاف ، فحقيق بمن مرّ عليها أن يمر مرور الكرام ، عارضاً لكل أحد حجته ، ملتمساً عذره ، غير مهدّدٍ ولا متوعد. على أن الأمر كله في ذلك موصول بكل جديد، ومستفيدٌ من عبر الزمان وأحواله وتقلباته ، ومن شهادة الواقع ومعاناته ، ومن فتوح العلم ومنجزاته . ثم إن حاجات الواقع أوسع من ذلك وأفسح . فقضايا الاجتماع ، والعلاقات الاجتماعية بمداراتها المختلفة وتشعباتها ومشكلاتها- حقيقة بالنظر الإصلاحي العميق . ومثلها قضايا الاقتصاد وتطوراته وشؤونه وميادينه .. والفقر والبطالة وآثارها ... ومعيار طلب الدنيا وطلب والآخرة . وهكذا الشأن في مسائل الإعلام ووسائله ، وخيره وشره ، وحلوه ومره . ثم أمور السياسة: مداراتها، واتجاهاتها، وخطئها وصوابها ، ثم منجزات العلم في كل الميادين ، من طب ، وصناعة ، وفلك ، وتربية ، وإدارة ، وحاسب ، واتصال ... وهذه البنود شديدة اللصوق بحياة الناس الأسرية والفكرية ، ولذا فهم شديدو التعلق بطرقها ، متى كان الطارق حاذقاً ، والمحلّ موافقاً والحال مواتيا . يظن البعض أن خوض السياسة هو وحده الذي يكسب الخطيب تألقه ، ويحشد حوله الناس . والصواب أن ا لموضوع الحي ، والتناول السديد ، ورشاقة الأسلوب ، وجودة الإلقاء ، وحسن الانتقال .. هي ضمانات الإبداع ، ومحققات الالتماع ، وجالبات الاستماع . وكم من واعظٍ بضاعته التبشير والتخويف ، تحتشد حوله ألوف بعد ألوف ! وكم من فقيهٍ متحدث في الحلال والحرام .. والناس حوله فئام إثر فئام ! وكم من مفسّر .. ومفكّر .. ومنظّر .. وما شأن برامج الإذاعة والتلفزة عنا ببعيد ! أيُّ معنى لخطيب يتحدث في الزنا والفاحشة، ولا يعرّج على الإيدز وإحصائياته المذهلة ، ونظائره من الأمراض الجنسية ! وأيُّ معنى لخطيب يتكلم في النكاح، والطلاق، ولا يعرّج على أثر الإعلام والمسلسلات الرومانسية، والروايات الغرامية ، ولا يستشهد بالإحصاءات والأرقام ، ويذكر كل ذلك بلسان العارف الخبير المطّلع ، لا بلسان الناقل المتلقف المتخطّف ! وأيُّ معنى لخطيب يتحدث عن الإعلام ، ثم يجمل الحديث عن الإنترنت ووسائل الاتصال باعتبارها رجساً من عمل الشيطان ، أو شراً محضاً ينبغي محاربته ونبذه ! إن ثقافة الخطيب الشخصية ذات أثر بعيد في نجاحه ، ويفترض أن ما يلقيه المتحدث في موضوعه لا يتجاوز 10% مما قرأه حول الموضوع. و حين تتناول هذا الموضوع، أو ذاك، فتذكرْ أن في مستمعيك من يفوقك - ولو في موضوع خاص – فجاهد نفسك في الدقة العلمية ، وإصابة المرمى ، وإن أعوزك الأمر فلُذْ بتعميم العبارة ، وتوسيع الإشارة ، وحاذر من حكاية الأوهام ، بحجة أنك لست في باب الحلال والحرام ، فإنك تخسر بذلك كل يومٍ فئةً تدري أن ما تحكيه ليس بصواب، فتنجفل إلى الباب ! و أَقْمِنْ بالخطيب – والحديث يجر بعضُه بعضاً – ألا يصغي بأُذُنِهِ لخبر محتمل ، أو رواية مترددة ، أو ظن أو تخمين ، حتى يعلم علم اليقين ! وما أحراه أن ينأى بنفسه عن الحديث عن الأشخاص، والأعيان تصريحاً أو تلميحاً ! وما أجدره أن يجانب لغة السب والتقريع والتوبيخ ، ورديء القول ، وشنيع المقال ؛ فالعفة من الإيمان ، والبذاءة في النار . وليكن في وارد البال أنه كلما كان الموضوع أكثر تحديداً – في هذا الباب – وأكثر دقة ، وأبعد عن التعميم كان ذلك أدعى لسهولة الإعداد ، وأيسر لتحقيق المراد ، وأقرب إلى الفهم ، وأوضح في الحكم . ومن تناول الموضوع بعموميته حام حوله ، ولم يُصِبْ كَبِدَهُ . ولأن هذه المسائل مترابطة بسنة الحياة ، فليس بِبِدْعٍ من القول أن تتناول الخطبة الواحدة عدداً منها من جوانب شتى . إذ لا يمكن فصل موضوع الزواج عن باب الاقتصاد ، ولا عن باب الإعلام ، ولا عن مبتكرات العلم الحديث ، فضلاً عن الوعد والوعيد ، والقرآن والحديث . أما عن تطلعات المستقبل فالقاعدة فيها النظر إلى مستقبل الإنسانية: علماً، وفكراً، وسياسة، واقتصاداً ، إذ المسلمون جزء من هذا العالم لا يملكون عَزْلَ أنفسهم عنه بحال ، فهم به متأثرون كثيراً ، ومؤثرون قليلاً ، بل نادراً ، والله المستعان . ولكن استراتيجيات الدعوة، وخططها وطموحات أهلها مربوطة بهذا الأفق الواسع الكبير ، ولا ينجح في الفِلاحة من لا يعرف طبيعة الأرض. ثم هناك ، بعد هذا وذاك ، مستقبل الإسلام والمسلمين ، والدعوة والدعاة، وقدرتهم على إدارة الحياة، وتوجيهها وفق شريعة الحق والعدل . وهذه المناحي الثلاثة تحتاج من الخطيب الحاذق لَمَسَاتٍ واعيةً ، ونَفَثَاتٍ هاديةٍ ، وتأصيلاً بديعاً ، وترسيماً رفيعاً ، يصل الأمس باليوم ، واليوم بالغد ، ويستشرف أفق المستقبل الواعد ، ما أعيت الحيلة فيه في الحالِ الحالّ ، من غير هروبٍ ، ولا مجازفة ، ولا تخدير . مع محاذرة التوقعات المحدّدة ، والتخوفات المردّدة ، والآمال الكِذاب ، والأحلام العِذاب . ولقد أصبح المستقبل، ودراساته علماً قائماً بذاته ، له مدارسه ومراكزه ومؤسساته ، وله متخصصوه، وكتّابه ومؤلفاته ، وهو كالنتيجة للمقدمة ، والثمرة للسبب ، والأثر للمؤثر ، وإن كان الظن يصدق ويكذب .
وأَعْلَمُ ما في اليومِ والأَمْسِ قبله *** ولكنَّني عن علمِ ما في غدٍ عَمِي هذه وَقَفَاتٌ سريعةٌ غيرُ مفقَّطةٍ ولامُنَقَّطَةٍ حول مضمون الخطبة وموضوعها وفحواها ومعناها .
اللغة والأسلوب وطريقة التعبير ، سواءٌ أكانت لفظية منطوقة ، أم كتابية مسطرة، هي وعاءٌ للحقائق والمعلومات، والأفكار التي تحملها . ودون شك فإن المضمون الجميل ، حقه أن يُقَدَّم في قالب جميل يليق به ، ولذلك قال بعض المفكرين : إن الطريقة التي تقدم بها الفكرة هي جزء من الفكرة ذاتها . وهذا صحيح . ولعل جزءاً منه يتبين في مثل صفة الرسول- صلى الله عليه وسلم- حال الخطبة ، ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب احمَرّت عيناه ، وعلا صوتُهُ ، واشتد غضبُهُ حتى كأنّه منذرُ جيش ، يقول: صبّحكم ومسّاكم ، ويقول : ( بُعِثْتُ أنا والساعةَ كهاتين ، ويَقْرِنُ بين إصبعيه: السبابةِ والوُسطى ، ويقول : أما بعد ؛ فإن خيَر الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد . وشرُّ الأمور محدثاتُها , وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ ، ثم يقول : أنا أولى بكل مؤمنٍ من نفسه .من ترك مالاً فلأهله ، ومن ترك ديْناً أو ضياعاً فإليَّ وعليَّ ) . فحين كان صلى الله عليه وسلم يتكلم عن أمر التخويف والتحذير ؛ كان هذا يبدو على قسمات وجهه ، ونبرات صوته ، من غير تكلف ،ولا تعمّل . وحين انتقل إلى تقريب الساعة وبيانها استخدم صلى الله عليه وسلم ، صيغة عملية ملفتة ، وهي الجمع بين إصبعيه ، حتى يضم إلى الدِّلالة اللفظية إيضاحاً عملياً مشهوداً يستقر في الذهن . وحين تدرّج إلى ذكر بعض النتائج والفوائد جاءت على صيغة فَقَراتٍ مفصولة موجزة ، يأخذ بعضها بِزِمامِ بعض ، وتنطلق إلى أذن السامع كأنها حبَّاتُ عِقْد نظيم . وحين ختم بقوله ( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ... الخ ) كان من الواضح أن اللهجة قد هدأت وأن الدورةَ الطبيعيةَ للحديث قد بلغتْ نهايتَها . ولذلك قال النووي تعليقاً على هذا الحديث ( 6/156) " يُسْتَدَلُّ به على أنه يُستحبُّ للخطيب أن يُفَخِّم أمرَ الُخطبةِ ، ويرفعَ صوتَهُ ، ويَجْزُلَ كلامُهُ ، ويكونَ مطابقاً للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب ،أو ترهيب، ولعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمراً عظيماً ، وتحذيره خَطَْْبًا جسيمًا .. " . إن تعبير " السحر " الوارد في حديث جابر بن سمرة في مسلم تلخيص دقيق لمهمة " البيان " ، فهو يَسْبي العقولَ ، ويأخذُ بالألبابِ ، ويُطْرِبُ الآذانَ ، ويُحَرِّكُ المشاعرَ ، ويُبَدِّلُ القناعاتِ ، ويصنَعُ العجائبَ . ولذا فإن الحس الأدبي المرهف ، والذوق الرفيع من أسباب النجاح والتوفيق في الخطاب ، خطبةً كان ، أو مقالةً ، أو شيئاً آخر . ورُبَّ أسلوبٍ راقٍ كان مرافعةً ناجحة عن قضية من قضايا المُبْطِلين . ورُبَّ أسلوبٍ ضعيفٍ متهالكٍ كان جِنايةً على فِكْرَةٍ عظيمةٍ نبيلةٍ . والذي يحدث –أحيانًا- أنّ مَنْ يتشبعُ بنظرٍ صحيح يُخيَّل إليه أن صواب الحجج العقلية والنقلية التي يملكها يُعفيه من إخراجها في القالب الأدبي الشاعري الآسر . والحقُّ أنَّ عليه أنْ يدرك أنَّ جودةَ العرضِ ، وحسنَ الصياغةِ ، وملائمةَ الخطابِ اللفظي يُضْفِي على نَصَاعَةِ الحجة مزيداً من القوة والإقناع والتأثير . ثم إن سَعَةَ الأُفُقِ ، كما تكون في شمولية الفكرة ، وتناسُبِها مع قِطاعٍ عريضٍ من الناس ، تكون –أيضًا- في شمولية الأُسلوبِ ، وخروجِهِ عن الإطار الخاص . إن الخطيب الذي يستحضر أنه يخاطب الأمة ممثلة في هذه المجموعة المُصِيخَةِ له ، يبني جسوراً قوية عابرة إلى تقارب الأمة بعضِهها مع بعض ، بشرائحها وفئاتها وشعوبها . والذي يختزل هذه الفئة ويستلها ثم يخاطبها خطاباً خصوصياً مستديماً .. قد ينساق – من حيث يدري أو لا يدري – إلى نقيض ذلك ، فيعمّق الفوارق بين فئات الأمة . ولو أن الفوارق كانت تميزاً لفئة بمزيد فهم ، أو علمٍ ، أو عملٍ .. أو مَزِيَّةٍ شرعيةٍ ، فإن الأمرَ- حينئذ- صائبٌ لا عَتْب فيه ، فكل فئة تنقل من حيث هي، إلى ما هو أرقى وأنقى وأبقى . أما حين تكون تلك الفوارق مناطقية أو إقليمية أو مصطنعةً فترسيخها ترسيخ للفرقة بين المؤمنين . واللغة جزء من ذلك ، فالاتكاء على لهجة خاصةٍ ، والحفاوة بمصطلحاتها ، ومفرداتها ، وأمثالها ، وتراكماتها .. يحول دون شمولية المعالجة ، وسَعَةِ الطرح ، وامتداد التواصل . واللغة الفصحى السهلة ، البعيدة عن التقعر والإغراب ، هي القالب اللائق بالخطبة التي يسمعها جمهور عامٌ ، فلا يترقى الخطيب إلى لغة المعاجم والقواميس ، التي تحجب ا لفكرة عن سامعه ، ولا ينحط إلى لغة السوق المبتذلة التي تُزْهِدُ الناسَ فيما لديه ، أو تَصْرِفُهم عنه ، ولا يمنع هذا وذاك من الإحماض بين الفيْنة والأخرى بلفتةٍٍ عابرةٍ مفهومة تربط الفلاّح بالخطبة ، وتشدّه إلى معناها ، أو أخرى لذي اختصاصٍ تبهَرُهُ وتُزَكِّي فهمَهُ . ولأن الخطبة عادةٌ تتكرر ، وشريعةٌ تنتظم ، ودأْبٌ يدوم ، فإنه يجمل بالخطيب أن يقتدي بهدي القرآن العظيم في تصريف الآيات ، وتنويع العِبَر، واستشراف الإبداع ، وأن يُعطِيَ لِخُطبته عُصارةَ جُهْده ، وخُلاصةَ كَدِّه . فالوقت الكافي الذي يصرفه في إعداد مادتها ، وصياغتها ، ومراجعتها ، وتقليب النظر فيها ، سيجعل منها مادةً دَسِمَةً غنية ثريةً ، وسيشعر المستمع – لا محالة – أنه محل الاحترام والتقدير ، حين استفرغ المتحدث جُهْدَهُ لأجله ، فقدَّم له هذه المادة المنتقاة المرتبة ، إنها ليست سُلالَةً من كتاب ، ولا ارتجالاً مُرْتَبِكًا من غيرتَأَهُّلٍ ، ولا تسديدَ فراغٍ ، ولا عِبْئًا يتطلع صاحبه إلى الخلاص منه . فذلك الخطيب الحاذق .. اختار محامِدَهُ التي استهل بها حديثه بعناية ظاهرة ، ونوّع فيها ، وناسَبَ بينها وبين موضوع خُطبته ، واستبعد منها كل وَحْشِيٍّ في اللفظ أو في المعنى ، وحلاّها بدُرٍّ نظيم ، من قبَسَاتِ الهدي الكريم ، ولم يُطِلْ فَيُمِلَّ ، ولم يقصّرْ فيُخِلَّ ، ولم يكرر تكراراً يبعث على السآمة ، ولم يُغْرِب إغراباً يجرُّ إلى الملامة . وربما ركن بين الفيْنة والفيْنة إلى الاستفتاح بخُطبة الحاجة ، أو خُطبة النِّكاح – كما سماها بعض المصنفين والشراح - دون التزامٍ صارم بها . فلقد وردت بها السنة في حديث جابر في مسلم ، وفي سواه من الأحاديث ، بيد أن هذا لا يعني أن ثمَّةَ التزاماً صارماً لا يتخلف بل إنّ ألفاظها ذاتها تختلف بين رواية وأخرى ، وقارن مثلاً حديث جابر المنوه عنه سابقاً ، بحديث ساقه مسلم إلى جواره عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قصته ضماد . وبعض أهل العلم قصرها على مجلس عَقْد النكاح ، ولكن هذا ما لا يسعفه الدليل . وقد جاء في صحيح السنة صيغ مختلفة لدعاء الاستفتاح في الصلاة ، وهو مما يتلوه المرء في سرّه ، فيكون أشدّ عليه إقبالاً ، وأكثر استحضاراً ، فما بالك فيمن يسمعه غيره ؟ فلتكن فقراتٍ صالحةً معتدلة منوعة ، ومن دون التزام صارمٍ بنوع منها يستلّ من المستمِع المتوِّثب روحَ التطلع والتوقع ، ليمنحه عِوَضاً عنه الإخلاد والاسترسال وراء هواجس النفس وشواغلها . ولتكنِ الخطبةُ كلُّها قصداً ، لا تهويلَ ولا تطويلَ ، ولا ابتسارَ ولا اختصارَ ، ولكنْ قصدٌ عدلٌ ، كما كانت خطبة محمد -صلى الله عليه وسلم- قصداً ، وصلاته قصداً ، كما في حديث جابر بن سمرة عند مسلم وغيره . وليتخير من جوامع الدعاء المأثور ما يليق بالحال والمقََام والموضوع ، دون اعتداءٍ ولا إفراط ، فإن الله لا يحب المعتدين ، ويتلوه بتخشُّع وتضَرُّع، وحضورِ قلب وابتهال ، فهي ساعة إجابةٍ يُرجى أن تفتح لدعوته فيها أبوابُ السماء . وليتجنبِ السجعَ المتكلَّفَ في دعائه وخطبته ؛ فإنه مذموم ، إلا ما جاء منه عفواً دون عناء ، وفي الحديث المتفق عليه عن متكلِّفِ السجعِ أنه من إخوان الكهان . ولا أعرف على التحديد سبباً وجيهاً لتجنب الخطباء الشعرَ جملةً وتفصيلًا . نعم . لا يصلح أن تتحول الخطبة إلى أمسية شعرية ، ولا أن يكون الغالب عليها الشعر ، لكن بيت أو بيتان تسوقهما المناسبة ، فيهما من التنويع والجاذبية الكثير ، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يستزيد من الشريد بن سويد كما في صحيح مسلم ، ويقول له : هل معك من شعر أميةَ بنِ أبي الصَّلْتِ شيءٌ؟ قال : فأنشدته مائة قافية ( يعني مائة بيت أو مائة قصيدة ) والتوسط في هذا وغيره مطلوب وكلُّ شيءٍ في إبَّانِهِ حسنٌ ، وإنَّ منَ الشعرِ لحكمةًّ .
المصدر : الإسلام اليوم | |
|